سألني أحد الإخوة متهكّمًا: "تريد أن تقول لي بأن المسيح هو الله، وبأنه مات على الصّليب، فهل يُعقل أن يموت الله؟

ومن الّذي أدار شؤون الكون أثناء موت الله؟"
لم تكن هذه المرّة الأولى الّتي أتعرَّض بها لمثل هذا السّؤال، وأعرف بأنّ كثيرين عندهم نفس السّؤال. لذلك من الضّروري علينا كمسيحيين أن نعطي جوابًا واضحًا ومقنعًا لمن يطرح علينا مثل هذا السّؤال، فهو يتناول ثلاث عقائد في الإيمان المسيحي وهي:
1. وحدانية الله الجامعة في الثّالوث القدّوس.
2. حقيقة تجسّد الله ومجيئه إلى الأرض في شخص الرّب يسوع المسيح.
3. حقيقة صلب الرّب يسوع المسيح، وقيامته في اليوم الثّالث.
في جوابي هنا، لن أعطي دراسة لاهوتيّة متكاملة للبرهنة على وحدانية الله الجامعة في الثالوث القدّوس، وكذلك لن أعطي هنا براهين على صحّة عقيدتنا وإيماننا كمسيحيّين بأن الرّب يسوع هو الله، وبأنه جاء إلى العالم بصورة إنسانٍ كامل. وسبب عدم الإسهاب ببساطة هو وجود الآلاف من الكتب والدّراسات والمقالات الّتي تبرهن بشكل متكامل وقاطع على صحّة إيماننا المسيحي بوحدانية الله الجامعة في الثّالوث القدّوس، وبصحّة إيماننا بلاهوت الرّب يسوع المسيح.
ولكنّني سأكتب هنا عن حقيقة وكيفيّة موت الرّب يسوع المسيح، وسأجيب عن سؤال صديقي عن إدارة شؤون الكون عند موته.
نقرأ في الأصحاح الأوّل من إنجيل المسيح بحسب البشير يوحنّا إعلان الله المبارك عن هويّة وحقيقة شخص الرّب يسوع المسيح: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ." (يوحنّا 1:1-5)
"وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا." (يوحنّا 14:1)
فالرّب يسوع المسيح هو "الكلمة"، وأصل الكلمة في اللّغة اليونانيّة هي λόγος (لوجوس) وهي كلمة متعدّدة المعاني، وفي الفلسفة الإغريقيّة القديمة، كما في الإنجيل المقدّس، تعني سبب وعلّة وأساس الوجود والحياة. فالكلمة هو (وليس هي) الله خالق الوجود، والّذي تجسّد من أجل خلاص العالم.
كتب بولس الرّسول بوحيٍ من الله قائلًا: "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ." (1تيموثاوس 16:3)
"فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا." (كولوسي 9:2)
كذلك نقرأ في رسالة العبرانيين عن حقيقة التّجسّد، وذلك من خلال عبارة قالها الابن، أي الكلمة، وهو الرّب يسوع المسيح، مخاطبًا الآب السّماوي: "هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا." (عبرانيين 5:10) ويؤكّد لنا الله على هذه الحقيقة السّماوية أيضًا في رسالة العبرانيين، حيث نقرأ:
"فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ." (عبرانيين 14:2)
وهكذا، فالكلمة الأزلي، الله خالق كل شيء، والقادر على كلّ شيء، وخالق الإنسان، والقادر أن يتجسّد بصورة إنسان، شارك النّاس الّذين خلقهم بأخذه طبيعة بشريّة من لحمٍ ودم. وبهذا الجسد الّذي اتّخذه، جال الرّب يسوع في العالم يصنع خيرًا لجميع النّاس، حيث علّمهم إرادة الله، وتحنّن عليهم، وشفى مرضاهم، وأقام موتاهم.
وعند اقتراب موعد نهاية خدمته الأرضيّة، قدّم للبشريّة أعظم عطيّة على الإطلاق وذلك بتقديم جسده ذبيحةً على الصّليب من أجل التّكفير عن خطاياهم، وبذلك تمّ الفداء، وأصبح بمقدور كلّ إنسان الحصول على الخلاص والحياة الأبديّة، وذلك بالإيمان بحقيقة موت المسيح على الصّليب، وقيامته المجيدة من بين الأموات.
لاحظ عبارة "تقديم جسده"، أي أن الرّب يسوع مات بالجسد على الصّليب وليس بالرّوح، فالرّوح لا يموت.
نقرأ في رسالة بطرس الأولى 18:3 كلمة الله القائلة:
"فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ."
ما أوضح الحقيقة المعلنة هنا: "مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ"، فالجسد هو الّذي مات. وهذه الحقيقة يؤكّدها لنا الله أيضًا في رسالة العبرانيّين: "فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً." (عبرانيّين 10:10)
مرّة أخرى نقرأ حقيقة "تَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ"، أي أنّ اللاهوت الحال في هذا الجسد لم يمت. فالرّب يسوع قبل موته على الصّليب قال مخاطبًا الآب السّماوي:
"يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ." (لوقا 46:23)
خلاصة ردّي لصديقي هو القول بأنّ الرّب يسوع المسيح قدّم جسده مرّةً واحدة قربانًا للتّكفير عن خطايا كل البشريّة، ولكنّ الله الواحد المثلث الأقانيم لا ولم ولن يموت، فهو نبع وربّ ورئيس الحياة، وهو ضابط الكلّ، ومسيِّر كل ما في الوجود، وكما نقرأ في الكتاب المقدّس: "لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ." (أعمال الرّسل 28:17)