قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة وفيلسوف العقل: "أنا أُفكّر، إذًا أنا موجود. كلنا يعلم

أهمية الفكر في حياتنا كبشر. إن الفكر هو الذي يقود حياتنا، فنحن نصمم أو نخطط لما نريد أن نقوم به عن طريق الفكر، وبالفكر تتبلور نظرتنا إلى الأمور. فأنا أعلم الصح من الخطأ عن طريق الفكر، وأنا أقرر الأمور المصيرية لحياتي عن طريق الفكر. هذا يرينا أهمية الفكر في حياة كل واحد منّا. فكم من مرة اتخذنا القرار الخاطئ بسبب عدم تقييمنا الصحيح للأمور؟ وقد نقلق لأمر ما.؟. لكن بعد أيام قليلة نكتشف أن ما قلقنا عليه كان مبالغًا فيه، أو غير صحيح البتة.
كتب الرسول بولس في رسالته إلى رومية 1:12-2 «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدّموا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضية عند الله، عبادتَكم العقلية. ولا تشاكلوا هذا الدّهر، بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانِكم، لتختبروا ما هي إرادةُ الله: الصالحة المرضية الكاملة». وكتب في رسالته إلى أفسس يحثّ المؤمنين أن لا يسلكوا كسائر الأمم ببطل ذهنهم، وطلب منهم: "أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجددوا بروحِ ذهنِكم، وتلبسوا الإنسانَ الجديد المخلوقَ بحسب الله في البرِّ وقداسة الحق." (أفسس 17:4-23)
فماذا يعني تجديد الذهن؟ وهل علينا كمؤمنين أن نجدّد أذهاننا؟ وماذا قصد الرسول بولس بقوله: «ولا تشاكلوا هذا الدّهر بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم»؟ وأيضًا قوله في رسالته إلى أفسس: "وتتجدّدوا بروح ذهنكم»؟ سأتحدث عن هذا الموضوع بثلاث نقاط:

أولًا: ما هو الوضع الذي نواجهه كمؤمنين؟
نعيش في وسط عالم شرير، له مفاهيم ومبادئ وقيم مختلفة عن القيم المسيحية. نظرة العالم إلى الخطيّة تختلف بالكلية عن نظرة الله لها. ولهذا وصف الرسول بولس - في المقطع الذي اقتبسته من الرسالة إلى أفسس - الناس خارج المسيح أنهم:
أ- مظلمو الفكر. وهذا وصف قوي وبليغ لحالة الناس. أي أنهم يعيشون في الظلمة لأن فكرهم بالأساس مظلم. وقال عنهم:
ب- متجنّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم، فهم جهلاء، وأنا أقصد جهلاء بالنسبة للأمور الروحية. "قال الجاهل في قلبه ليس إله." وأضاف،
ج- بسبب غلاظة قلوبهم، ونستطيع القول هنا بسبب غلاظة أذهانهم. فهم لا يريدون أن يأتوا إلى الحق، لأن عقولهم ترفض فكر الله. لهذا دعانا الرسول بولس: «ولا تشاكلوا هذا الدهر»، أي مفاهيم وقيم هذا الدهر.
وأيضًا قوله: «الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور». فنحن أيضًا جزء من هذا العالم، وكبشر نحمل في طبيعتنا هذا الإنسان العتيق الفاسد، والذي ينجذب بسرعة لشهوات الغرور. فالجسد يشتهي ضد الروح.
إن نظام العالم يخالف قيم ومبادئ المسيحية. وهذا يؤكد أنه علينا أن نجدّد أذهاننا إذا كنا نريد أن نسلك بحسب مشيئة الله في حياتنا، وبحسب المبادئ والقيم المسيحية. فالأمر ليس خيارًا لكنه واجب علينا.

ثانيًا: كيف نجدّد أذهاننا؟
يقدّم لنا الرسول بولس عدة وصفات أو وسائل لكي نجدّد فيها أذهاننا:

أ- أن نخلع الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور: أي نخلع أولًا كل ما في عقولنا أو أذهاننا من قيم فاسدة وباطلة، إذ عندما نخلع هذه القيم الفاسدة من أذهاننا، نكون قد بدأنا السير على الطريق الصحيح. العالم يشجّع على الأنانية، والفردية، والبغض، والسّعي لكي أكون أولًا على حساب الآخرين، والاحتيال، واللف والدوران في عملي. ويسلك الناس بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وهناك أمور كثيرة يتمسّك بها الإنسان وهي نتيجة لتقاليده أو عاداته أو حتى لضغط المجتمع عليه، لهذا عليه كمؤمن أن يتخلّى عن كل ما هو فاسد وشرير، لكي يستطيع تجديد ذهنه.

ب: بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، أو "وتتجددوا بروح ذهنكم". ماذا يعني تغيير الشكل؟ أو تجديد الذهن؟
يعني تغيير الفكر أولًا، وأن أحاول أن أُدخِل القيم المسيحية إلى ذهني، وأن أنظر إلى الأمور نظرة كتابية مسيحية، وليس بحسب نظرة العالم. المسيحية تدعو إلى نبذ الأنانية وليس العمل لما هو مصلحتي الشخصية فقط، وأن أكون محبًا للآخرين كنفسي، وأن أكون صادقًا ومخلصًا في عملي وعلاقاتي مع الناس الآخرين. وأن أكون نورًا في العالم وملحًا في الأرض. وأن نطبّق القاعدة الذهبية في حياتنا: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم. هذا هو الناموس والأنبياء».
لكن ما هي الأمور التي يجب أن نفكر بها وندخلها بالتالي إلى أذهاننا؟ كتب الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي يقول: «أخيرًا أيها الإخوة كلُ ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مسرّ، كل ما صيته حسن، إن كانت فضيلة وإن كان مدح، ففي هذه افتكروا." أي عندما نفكّر بهذه الأمور، تتغيّر أذهاننا، ويتم تجديد الذّهن، وهذا ينعكس بدوره على حياتنا العملية.

ج: وأن نلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرّ وقداسة الحق. قد يسأل البعض: ألم نلبس الإنسان الجديد عند ولادتنا الروحية؟ هذا صحيح من جهة مبدئيّة. لكن عملية التجديد اليومي مستمرة في حياتنا. فمن المهم أن نخلع الإنسان العتيق الفاسد، وأن نجدّد أذهاننا، وليس هذا فحسب بل أن نلبس الإنسان الجديد كل يوم، أي قيم الإنسان الجديد الروحية. وأن نذكّر أنفسنا كل يوم أننا نحن من أولاد الله، وأنه يجب علينا أن نسلك بحسب هذا الوضع الجديد الذي اختبرناه روحيًا، أي السلوك بالروح. وأن نأخذ القيم الروحية التي تحثّنا عليها كلمة الله، لكي يكون عندنا ثمر الروح.
ولنلاحظ قوله: وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرّ وقداسة الحقّ. أي في طريق الصلاح والقداسة، والامتناع عن كل شرّ.

ثالثًا: ما هي الأمور العملية التي تساعدنا على تجديد الذّهن؟
(كولوسي 8:3-10، 12-17)
أي كيف نجدّد أذهاننا بشكل عملي؟ ففي رسالته إلى كولوسي يكشف لنا الرسول بولس عن الأمور السلبية التي يجب أن نطرحها عنّا أو نخلعها في إنساننا العتيق. "مثل الغضب، السّخط، الخُبث، التجديف، الكلام القبيح، الكذب، والزنا، الهوى، الشهوة الرّديّة، الطمع" وغيرها. والسبب: «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله». مع العلم أن كل هذه الأمور كما يقول علماء النفس والاجتماع تبدأ في الفكر أو الذهن، ولهذا علينا أن نحاربها في أذهاننا أولًا.
وأضاف الرسول بولس قائلًا: «ولبستم الجديد الذي يتجدّد حسب صورة خالقه». أي دعانا في نفس الوقت في سلسلة أخرى لكي نلبس الأمور الإيجابية للإنسان الجديد: «أحشاء رأفات، ولطفًا، وتواضعًا، ووداعة، وطول أناة، احتمال ومسامحة بعضنا البعض، وأن نغفر لبعضنا البعض، وأن نلبس المحبّة التي هي رباط الكمال"، وغيرها من الأمور. ثم ختم قائلًا: «وكلُّ ما عملتم بقولٍ أو فعل، فاعملوا الكل باسم الرب يسوع، شاكرين الله والآب به».
إن كل هذه الأمور: أي السلسلة المتعلقة بالأمور السلبية التي يجب أن نطرحها، وأيضًا السلسلة المتعلقة بالأمور الإيجابية الروحية، التي يجب أن نلبسها، كل هذه الأمور تساعدنا على تجديد أذهاننا، وعندها تتغير أشكالنا حقًا وفعلًا، ونختبر كما قال الرسول بولس إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. فعندما نغيّر أو نجدّد أذهاننا، ونخلع الإنسان العتيق الفاسد، ونلبس الإنسان الجديد الذي يتجدّد حسب صورة خالقه، نستطيع أن نختبر ونعرف إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة في حياتنا.
ليساعدنا الرب حتى نستطيع أن نجدّد أذهاننا كل يوم، وهذا طبعًا يتمّ بمساعدة روح الله القدوس. فروح الله الساكن فينا هو الذي يساعدنا لكي نخلع القديم ونلبس الجديد. فلنصلِّ مع صاحب المزمور: «لتكن أقوالُ فمي وفكرُ قلبي مرضيةً أمامك يا ربُّ، صخرتي ووليّي.» (مزمور 14:19)